تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٣٩
وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره: لا تثريب عليكم اليوم، كما قدروا في * (لا عاصم اليوم من أمر الله) * أي: يعصم اليوم، لكان وجها قويا، لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز، ولم يلفظ به بنو تميم. ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء، فهو يرجو منه قبول دعائه لعم بالمغفرة.
والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي: مصحوبين أو ملتبسين به. وقيل: للتعدية أي: اذهبوا قميصي، أي احملوا قميصي. قيل: هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه، وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي. وقيل: كان لإبراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار، ثم لإسحاق، ثم ليعقوب، ثم ليوسف. وقيل: هو القميص الذي قد من دبر، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة. والظهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد، قال ذلك: ابن عطية. وهكذا تتبين الغرابة في أنوجد يعقوب ريحه من بعد، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد. وقوله: فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن، إما بإعلامهم، وإما بوحي. وقوله: يأت بصيرا، يظهر أنه بوحي. وأهلوه الذين أمر بأن يؤتي بهم سبعون، أو ثمانون، أو ثلاثة وتسعون، أو ستة وتسعون، أقوال أولها للكلبي وثالثها المسروق. وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف. ومعنى: يأت، يأتيني، وانتصب بصيرا على الحال.
* (ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا) *: فصل من البلد يفصل فضولا انفصل منه وجاوز حيطانه، وهو لازم. وفصل الشيء فصلا فرق، وهو متعد. ومعنى فصلت العير: انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب، وكان قريبا من بيت المقدس. وقيل: بالجزيرة، وبيت المقدس هو الصحيح، لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن. وقرأ ابن عباس: ولما انفصل العير، قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، هاجت ريح فحملت عرفه. وقال الحسن وابن جريج: من ثمانين فرسخا، وكان مدة فراقه منه سبعا وسبعين سنة. وعن الحسن أيضا: وجده من مسيرة ثلاثين يوما، وعنه: مسيرة عشر ليال. وعن أبي أيوب المهروي: أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك. وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. ومعنى لأجد: لأشم فهو وجود حاسة الشم. وقال الشاعر:
* وإني لأستشفي بكل غمامة * يهب بها من نحو أرضك ريح * ومعنى تفندون قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: تسفهون. وعن ابن عباس أيضا: تجهلون، وعنه أيضا: تضعفون. وقال عطاء وابن جبير: تكذبون. وقال الحسن: تهرمون. وقال ابن زيد، والضحاك ومجاهد أيضا: تقولون ذهب عقلك وخرفت. وقال أبو عمرو: تقبحون. وقال الكسائي: تعجزون. وقال أبو عبيدة: تضللون. وقيل: تخطئون. وهذه كلها متقاربة في المعنى، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله، أو لهوى غالب عليه، أو لكذبه، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه. وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شيج مفند أي: قد فسر
(٣٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 334 335 336 337 338 339 340 341 342 343 344 ... » »»