خبز، والطير تأكل من أعلاه، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد. ولا يجوز أن يقول: اضربني ولا أكرمني. وسمى العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة غسان اسم العنب. وقيل: في لغة ازدعمان. وقال المعتمر: لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمرا، أراد العنب. وقرأ أبي وعبد الله: أعصر عنبا، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمرا. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها. وفي مصحف عبد الله: فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه، وهو أيضا تفسير لا قراءة. والضمير في تأويله عائدا إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: بتأويل ذلك. وقال الجمهور: من المحسنين أي في العلم، لأنهما رأيا سنة ما علما به أنه عالم. وقال الضحاك وقتادة: من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم. وقال ابن إسحاق: أرادا إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا، إذا تأول لهما ما رأياه.
* (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربى إنى تركت ملة قوم) *: قال الزمخشري: لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، ويجعل ذلك تخليصا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح لهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة، وهو قول ابن جريج قال: أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن. وقال السدي وابن إسحاق، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام، وطماعية في أيمانهما، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته فقال لهما معلنا بعظيم علمه للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروى أنهما قالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: ذلك مما علمني ربي. والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره، أنه في اليقظة، وأن قوله: مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبيا يوحى إليه. والظاهر أن قوله: إني تركت، استئناف إخبار بما هو عليه، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه. وفي الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة، واستجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها. ويجوز أن يكون إني تركت تعليلا لما قبله أي: علمني ذلك، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك، واتبعت ملة الأنبياء، وهي الملة الحنيفية. وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر، ومن كان الفتيان على دينهم. ونبه على أصلين عظيمين وهما:
الإيمان بالله، والإيمان بدار الجزاء، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل. وقال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة، وأن