تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٧٩
بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله * (تأتيهم) * فإذا كانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام، كانت * (من) * لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت * (من) * دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل، و * (من) * الثانية للتبعيض. قال الزمخشري: يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه * (معرضين) * تاركين للنظر، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب؛ انتهى. واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله: وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله: وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمال ذلك. وقيل: * (الاية) * هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية . وقيل: الرسالة. وقيل: المعجز الخارق. وقيل: القرآن ومعنى * (عنها) * أي: عن قبولها أو سماعها، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام، والجملة من قوله: * (كانوا) * ومتعلقها في موضع الحال فيكون * (تأتيهم) * ماضي المعنى لقوله: * (كانوا) * أو يكون * (كانوا) * مضارع المعنى لقوله: * (تأتيهم) * وذو الحال هو الضمير في * (تأتيهم) *، ولا يأتي ماضيا إلا بأحد شرطين أحدهما: أن يسبقه فعل كما في هذا الآية، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمرا، وهذا التفات وخروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على * (الذين كفروا) *. وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء * (الذين كفروا) * بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، ولما تقدم الكلام أولا في التوحيد وثانيا في المعاد وثالثا في تقرير هذين المطلوبين، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأمل في الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل.
* (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) * * (الحق) * القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم) أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل: * (فقد كذبوا) * بالآية التي تأتيهم وهي * (الحق) * فأقام الظاهر مقام المضمر، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى، وظاهر قوله * (فقد كذبوا) * أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبة التكذيب. وقال الزمخشري: * (فقد كذبوا) * مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات. * (فقد كذبوا) * بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه؛ انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير.
* (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به) * هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به، * (جاءهم فسوف يأتيهم) * وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب، وهو أزيد من الإعراض إذ المعرض قد يكون غافلا عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حد الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي: * (فسوف يأتيهم) * مضمن * (أنباء) * فقال قوم: المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر. وقيل: هو عذاب الآخرة، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول: اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق. وقال الزمخشري: وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى
(٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 ... » »»