فعل * (الذين كفروا) * لأن المعنى: أن خلقه * (السماوات والارض) * وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك، ثم تشتمني أي: بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب * (ثم) * انتهى.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى ثم (قلت): استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك * (ثم أنتم تمترون) * استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميهم وباعثهم؛ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن * (ثم) * للتوبيخ، والزمخشري من أن * (ثم) * للاستبعاد ليس بصحيح لأن * (ثم) * لم توضع لذلك، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول، ثم ولا أعلم أحدا من النحويين ذكر ذلك بل * (ثم) * هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على لعلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به * (يعدلون) * فلا يحمدونه.
وقال الزمخشري (فإن قلت): علام عطف قوله: * (ثم الذين كفروا) *.
(قلت): إما على قوله: * (الحمد لله) * على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * فيكفرون نعمه وإما على قوله * (خلق * السماوات والارض) * على معنى أنه خلق ما خلق، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه؛ انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز، لأنه إذ ذاك يكون معطوفا على الصلة والمعطوف على الصلة صلة، فلو جعلت الجملة من قوله: * (ثم الذين كفروا) * صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر، فكأنه قيل: * (ثم الذين كفروا * به * يعدلون) * وهذا من الندور، بحيث لا يقاس عليه ولا يجمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح، * (والذين كفروا) * الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيرا واتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا: الموت من أهرمن والحياة من الله، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في * (بربهم) * يحتمل أن تتعلق ب * (يعدلون) * وتكون الباء بمعنى عن أي: يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي: يسوون به غيره في اتخاذه ربا وإلها وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به، وفي الآية رد على القدرية في قولهم: الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد.
* (هو الذى خلقكم من طين) * ظاهره أنا مخلوقون من طين، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها * (من طين) * ثم يقلبها الله نطفة. قال ابن عطية: وهذا يترتب على قول من يقول: يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين؛ انتهى.