سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته؛ انتهى. وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب * (سوف) * وفي الشعراء فقد كذبوا فسيأتيهم لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مرادا حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله: * (لما * كانوا) * موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في * (به) * عائد عليها. وقال ابن عطية: يصح أن تكون مصدرية التقدير * (أنباء) * كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في * (به) * عائد على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن * (ما) * المصدرية اسم لا حرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.
* (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و * (يروا) * هنا بمعنى يعلموا، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و * (كم) * في موضع المفعول ب * (أهلكنا) * و * (يروا) * معلقة والجملة في موضع مفعولها، و * (من) * الأولى لابتداء الغاية و * (من) * الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله * (من) * الثانية بدلا من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة، كما أهلك قوم نوح وعادا وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنويا بالمسح قردة وخنازير، والضمير في * (يروا) * عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و * (لكم) * خطاب لهم فهو التفات، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم. وقال ابن عطية: والمخاطبة في * (لكم) * هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة، كأنه قال: * (ما لم نمكن) * يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال * (إلا كانوا به يستهزءون ألم يروا كم أهلكنا) * الآية. وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة، انتهى. فتقول: قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه، والضمير في * (مكناهم) * عائد على * (كم) * مراعاة لمعناها، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على * (قرن) * وذلك ضعيف لأن * (من قرن) * تمييز * (لكم) * فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين، فما بعده إذ * (من قرن) * جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه، وأجاز أبو البقاء أن يكون * (كم) * هنا ظرفا وأن يكون مصدرا، أي: كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكا أهلكنا؟ ومفعول * (أهلكنا من * قرن) * على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد، لو قلت: كم أزمانا ضربت رجلا أو كم مرة ضربت رجلا؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة * (من) * لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي، والاستفهام هنا ليس محضا ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله * ( مكناهم) * جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: * (مكناهم فى الارض) *. وقال أبو البقاء: * (مكناهم) * في موضع خبر صفة * (قرن) * وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن، * (وما) * في قوله: * (ما لم نمكن لكم) * جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين، الذي * (لم نمكن