تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٣٣
المستضعفين كان بدل بعض من كل ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على * (قومه) * كان بدل كل من كل وكان الاستضعاف مقصورا على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسما واحدا ومن آمن مفسرا للمستضعفين من قومه واللام في * (للذين) * للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم * (من ربه) * اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.
* (قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) * جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم * (إنا بما أرسل به مؤمنون) * في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلا التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى.
* (قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) * فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعم قصدوا الرد لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما.
* (فعقروا الناقة) * نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادرا عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالىء واتفاق حتى روي أن قدارا لم يعقرها إلا عن مشاورة الرجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وكانت تستوفي ماءهم شربا ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحب إلينا منه وقال لهم صالح يوما إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التسعة أولادهم وبقي العاشر وهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيرا ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية:
* فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم * كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم * قال الشراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشب في اليوم شباب غيره في السنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا: لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله، وروي أن السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاب بن عمرو وتكنى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قدارا على أن تعطيه أي بناتها شاء وكان عزيزا منيعا في قومه ودعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به فشد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية الله أعلم بصحتها، وقيل سبب عقرها أن قدارا شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمن لها فرماها بالحرية ثم سقطت فعقرها، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة:
* فأتاها أحيمر كأخي السه * م بعضب فقال كوني عقيرا * * (وعتوا عن أمر ربهم) * أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله * (فذروها تأكل فى أرض الله) * ولا تمسوها بسوء ومن اتباع أمر الله وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم
(٣٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 328 329 330 331 332 333 334 335 336 337 338 ... » »»