تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٢١٣
مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح وقولهم: نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم.
* (يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و * (من) * قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف. وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها * (يضل) * وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل. وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر * (يضل) * والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله * (لنعلم أي الحزبين) * وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو. وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح * (يضل) * بضم الياء وفاعل * (يضل) * ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالا أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما.
* (فكلوا مما ذكر اسم عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) * ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول: من قتل الشاة التي ماتت؟ قال الله: قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام. وقال عكرمة: لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش فكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يبتعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين، فأنزل الله: * (ولا تأكلوا مما) * ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لإمامات حتف أنفه. وقال الزمخشري: * (فكلوا) * متسبب عن إنكار اتباع المضلين وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول: أطعني إن كنت ابني أي أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم.
* (وما لكم * أن لا * تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه؟ وهو استفهام يتضمن الإنكار على من امتنع من ذلك أي لا شيء يمنع من ذلك * (وقد فصل لكم) * في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية، ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن تكون * (وقد فصل) * راجعا إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عن هذه السورة. وقال الزمخشري: * (قد فصلنا * لكم ما حرم عليكم) * مما لم يحرم عليكم وهو قوله: * (حرم عليكم الميتة) * انتهى. وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح، و * (أن لا * تأكلوا) * أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبرا لما الاستفهامية ونفى * (أن لا * تأكلوا) * على
(٢١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 208 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 ... » »»