تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ١٨٢
الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض، فقيل: جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء، وتتناسق قراءة التاء مع قوله: * (علمتم) * ومن قال: إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال: خلال السؤال والجواب: تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكا لنظم الآية وتركيبها، حيث جعل الكلام أولا خطابا مع الكفار وآخرا خطابا مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول، جاء بعض الكلام خطابا للعرب وبعضه خطابا لبني إسرائيل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.
* (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم) * ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم، بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم وليس كذلك آباء العرب، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم، وقيل: الخطاب للعرب، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهم أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين * (ولا ءاباؤكم) * وقيل: الخطاب لمن آمن من اليهود، وقيل: لمن آمن من قريش وتفسير * (ما لم تعلموا) * يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أو دين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن، قال الزمخشري: الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) مما أوحي إليه * (ما لم تعلموا أنتم) * وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش * (لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم) * انتهى.
* (قل الله) * أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله سواء أقر الخصم بها أم لم يقر، ونظيره: * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله) *. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه.
* (ثم ذرهم فى خوضهم) * حال من مفعول ذرهم أي من ضمير * (للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم قل الله ثم ذرهم فى خوضهم) * و * (فى خوضهم) * متعلق ب * (ذرهم) * أو ب * (يلعبون) * أو حال من * (يلعبون) * وظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخا بآيات القتال وإن جعل تهديدا أو وعيدا خاليا من موادعة فلا نسخ.
* (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك) * أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئا وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا: * (أنزل الله ولا) *، وقيل: * (قل من أنزل الكتاب) * كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفه بكونه مباركا ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعا فصارت الصفة بكونه مباركا، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها، فأما قوله: * (وهاذا ذكر مبارك أنزلناه) * فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئا بل جاء عقب قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضياء * وذكرى * للمتقين) * ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفا لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت.
* (مصدق الذى بين يديه) * أي من كتب الله المنزلة، وقيل التوراة، وقيل البعث، قال ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»