تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥١١
يكون مصدقا للكتب الإلهية، لكن قوله: معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح، لأنا قد بينا أن قوله: فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة، إذ قدرناه كائنا فيه هدى ونور، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفردا أو جملة، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل، لأنها جملة اسمية، ولم تأت بالواو، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير، لكن الأسن والأكثر أن يأتي بالواو، حتى أن الفراء زعم أن عدم الواو شاذ، وإن كان ثم ضمير، وتبعه على ذلك الزمخشر. قال علي بن أبي طالب: ومصدقا معطوف على مصدقا الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالا من عيسى، كرره على سبيل التوكيد، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعاني، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدقا.
* (وهدى وموعظة للمتقين) * قرأ الضحاك: وهدى وموعظة بالرفع، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور: بالنصب حالا معطوفة على قوله: ومصدقا، جعله أولا فيه هدى ونور، وجعله ثانيا هدى وموعظة. فهو في نفسه هدى، وهو مشتمل على الهدى، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشرا برسول الله صلى الله عليه وسلم) والدلالة منه على نبوته ظاهرة. ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك، أعاد الله ذكر الهدى تقريرا وبيانا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما قال تعالى: * (هدى للمتقين) * فهم المقصودون في علم الله تعالى، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله: وليحكم. قال: كأنه قيل: وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل، ولذلك جاء منصوبا. ولما كان: وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضا، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضا لذلك باللام، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري: فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدقا فما تصنع بقوله: وليحكم؟ (قلت): أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولا لهما، فأقدر: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح.
* (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) * أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم)، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل الله فيه مخصوصا بالدلائل الدالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى: وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد. وظاهر الأمر يرد قول من قال: إن عيسى كان متعبدا بأحكام التوراة. وقال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * ولهذا القائل أن يقول: بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وهنما أكثره زواجر. وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها، ولهذا جاء: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) *.
وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر ساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبي: وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقال ابن عطية
(٥١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 506 507 508 509 510 511 512 513 514 515 516 ... » »»