تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٠٩
ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص، وهو ما يمكن فيه القصاص. وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول: والجروح قصاص، يقتضي أن يكون الجرح بمثله، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص. واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء، وبين العبد والحر. وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله: والجروح قصاص، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص، فيحصل العموم. معنى: وإن لم يحصل لفظا. ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص، فلا خلاف في وجوبها فيه، وما فلا قصاص فيه كالمأمومة. وقال أبو عبيد: فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى. وقال غيره: في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية، وأقاد ابن الزبير من المأمومة، وأنكر الناس عليه. قال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منها قبله. وأما الجروح في اللحم فقال: فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل، ويوضع بمقدار ذلك الجرح.
* (فمن تصدق به فهو كفارة له) * المتصدق صاحب الحق. ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، وهو ضمير يعود على التصدق أي: فالتصدق كفارة للتصدق، والمعنى: أن من تصدق بجرحه يكفر عنه، قاله: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وأبو الدرداء، وقتادة، والحسن، والشعبي. وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم) يقول: (من من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة) وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي: (أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية) وعن عبد الله بن عمر: يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق. وقيل: الضمير في له عائد على الجاني وإن لم يتقدم له ذكر، لكنه يفهم من سياق الكلام، ويدل عليه المعنى. والمعنى: فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص. وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة، وأجر العافي على الله تعالى قاله: ابن عباس، والسبيعي، ومجاهد، وإبراهيم، والشعبي، وزيد بن أسلم، ومقاتل. وقيل: المتصدق هو الجاني، والضمير في له يعود عليه. والمعنى: إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه، فذلك الفعل كفارة لذنبه. وقال مجاهد: إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب. وأصار عروة عند الركن إنسانا وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة: أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزبير، فإن كان يلحقك بها بأس فأنابها. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة، ويحتمل أن يكون من الصدق.
وقرأ أبي: فهو كفارة له يعني: فالتصدق كفارته، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل لقوله: * (فأجره على الله) * وترغيب في العفو. وتأول قوم الآية على معنى: والجروح قصاص، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت. وفي مصحف أبي: ومن يتصدق به فإنه كفارة له.
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين، لأنه جاء عقيب قوله: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها، بل يخالف رأسا. ولذلك جاء: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * وهذا كفر، فناسب ذكر الكافرين. وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.
* (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم
(٥٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 504 505 506 507 508 509 510 511 512 513 514 ... » »»