مصدقا لما بين يديه من التوراة) * مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أن التوراة يحكم بها النبيون، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيها على أنه من جملة الأنبياء، وتنويها باسمه، وتنزيها له عما يدعيه اليهود فيه، وأنه من جملة مصدقي التوراة.
ومعنى: قفينا، أتينا به، يقفو آثارهم أي يتبعها. والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله: * (يحكم بها النبيون) * وقيل: على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام. وعلى آثارهم، متعلق بقفينا، وبعيسى متعلق به أيضا. وهذا على سبيل التضمين أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافيا لهم، وليس التضعيف في قفينا للتعدية، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية، ولا تعدى بعلى. وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب: ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء، وتعدى إلى آثارهم بعلى. وقال الزمخشري: قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.
(فإن قلت): فأين المفعول الأول في الآية؟ (قلت): هو محذوف، والظرف الذي هو على آثارهم كالساد مسده، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى. وكلامه يحتاج إلى تأويل، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته، فيكون فعل بمعنى فعل نحو: قدرالله، وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل، ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قل أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد. ولا يجوز فلا يقال: في طعم زيد اللحم، أطعمت زيدا باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة تقول: دفع زيد عمرا، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيدا بعمر. وأي: جعلت زيدا يدفع عمرا، وكذلك صك الحجر الحجر. ثم تقول: صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه، لأن المفعول هو مفعول به صريح، ولا يسد الظرف مسده، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به. ألا ترى إلى قوله: لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري: فقد قفى به إياه فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلا، وليس من مواضع فصل لو قلت: زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر، فإصلاحه زيد ضربته بسوط، وانتصب مصدقا على الحال من عيسى. ومعنى : لما بين يديه، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله، كما أن الرسول بين يدي الساعة. وتقدم الكلام في هذا. وتصديقه إياها هو بكونه مقرا أنها كتاب منزل من الله حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها.
* (وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن) * هذه الجملة معطوفة على قوله: وقفينا. وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتابا إلهيا. وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربيا.
وقوله: فيه هدى ونور، في موضع الحال، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور، إذ قد اعتمد بأن. وقع حالا لذي حال أي: كائنا فيه هدى. ولذلك عطف عليه * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة) * والضمير في يديه عائد على الإنجيل، والمعنى: أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب. ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى، وإلى إحياء أحكام التوراة، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها. قال ابن عطية: ومصدقا حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال انتهى. وإنما قال: إن مصدقا، حال مؤكدة من حيث المعنى، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتابا إلا هيا أن