إن كان الارتداد حقيقيا وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه: يصيرون إلى الذل بعد العز والخلاص من أيدي القبط. وإن كان الارتداد مجازا وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه: يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة. وحقيق بالخسران من خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره.
* (قالوا يأبانا * موسى أن * فيها قوما جبارين) * أي: قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأن يشاوروا في الأمور. وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي: أن فيها من لا نطيق قتالهم. قيل: هم من بقايا عاد، وقيل: من الروم من ولد عيص بن إسحاق. وقرأ ابن السميقع: قالوا يا موسى فيها قوم جبارون.
* (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) * هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة، ولذلك كان النفي بلن. ومعنى حتى يخرجوا منها: بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون.
* (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) * وهذا توجيه منهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه. وقال أكثر المفسرين: لم يشكوا فيما وعدهم الله به، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى: * (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم) *. وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
* (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب) * الأشهر عند المفسرين أن الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه: كلاب، ويقال: كالوب، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال. وقيل: الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، وأنعم الله عليهما بالإيمان. فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله: يخافون، أي: يخافون الله، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم، وهذان منهم. أو يخافون العدو، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائدا على بني إسرائيل، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفا تقديره: من الذين يخافونهم أي: يخافهم بنو إسرائيل. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، يخافون بضم الياء. وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب. ومعنى يخافون أي: يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون: بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحا لهم كقوله * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله: رجلان، وصفا أولا بالجار والمجرور، ثم ثانيا بالملة. وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما، وجوز أن تكون الجملة حالا على إضمار قد، وأن تكون اعتراضا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وفي قراءة عبد الله. أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب. والباب: باب مدينة الجبارين، والمعنى: اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب، وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريبا من المدينة.
* (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) * قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله: * (التى كتب الله لكم) *. وقيل: رجاء لنصر الله رسله، وغلب ذلك على ظنهم. وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى. وعلى قول أن الرجلين كانا من الجبارين فقيل: إنهما قالا لهم: