القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم. الثانية: جعلهم ملوكا ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكا إذ جعل منهم ملوكا، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا. وقال السدي وغيره: وجعلكم أحرارا تملكون ولا تملكون، إذ كنتم خدما للقبط فأنقذكم منهم، فسمي استنقاذكم ملكا. وقال قوم: جعلهم ملوكا بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم. وقال قتادة: ملوكا لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء. وقال ابن عطية وقتادة: وإنما قال وجعلكم ملوكا، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضا مدة تناسلوا وكثروا انتهى.
وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل، وهو ظاهر قوله: وجعلكم ملوكا. وقال عبد الله بن عمر، والحسن، ومجاهد، وجماعة: من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك. وقيل: من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك. وقيل: من له زوجة وخادم، وروي هذا عن ابن عباس. وقال عكرمة: من ملك عندهم خادما وبيتا دعي عندهم ملكا. وقيل: من له منزل واسع فيه ماء جار. وقيل: من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. وقيل: ملوك لقناعتهم، وهو ملك خفي. ولهذا جاء في الحديث: (القناعة كنز لا ينفذ). وقيل: لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون. وقيل: ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره. الثالثة: إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد: بالمن والسلوى، والحجر، والغمام. وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم. وقيل: كثرة الأنبياء. وقال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا، خصوا بفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، ومد الغمام فوقهم. ولم تجمع النبوة والملك لقوم كما جمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى. وأن المراد كثرة الأنبياء، أو خصوصات مجموع آيات موسى. فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم) أكثر من ذلك: قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم) بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة، وحن له الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعد العود سيفا، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى. وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي حاشهم، وليعلموا أن من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه، ويجعل له السلطنة والقهر عليه.
والخطاب في قوله: وآتاكم، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه، وأنه من كلام موسى لهم، وبه قال الجمهور. وقال أبو مالك، وابن جبير: هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، وانتهى الكلام عند قوله: وجعلكم ملوكا، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم) بهذه النعمة الظاهرة جبرا لقلوبهم، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم) على سائر الأمم، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره. وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه، وهو معطوف على ما قبله، ولا يلزم