تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٧٠
ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) * وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا: هو تغيير أحكام الله. وقيل: هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي. وقيل: خضاب الشيب بالسواد. وقيل: معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وسمل العيون، وقطع الأنثيين. ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما خو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر. وفي حديث عياض المجاشعي: * (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي).
ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن. وحذف لدلالة ما بعده عليه. وقرأ أبو عمرو: ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية. وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى. فتكون جملا مقولة، لا مقسما عليها. وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولا باستخلاص الشيطان نصيبا منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانيا بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثا بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعا بتبتيك آذان الأنعام، هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامسا بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم. وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجا تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجا لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحا من إبليس طواعينهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له. فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه: يأمره أولا بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه. وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها علم ذلك، وأنها تقع إما لقوله تعالى. * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه.
* (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) * أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله. وكأنه لما قال إبليس: لأتخذن من عبادك نصيبا، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له، فاتخذوه وليا من دون الله. والولي هنا قال مقاتل: بمعنى الرب. وقال أبو سليمان لدمشقي: من الموالاة، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته. وقوله: من دون الله، قيد لازم. لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا إلا إذا لم يتخذ الله وليا، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا ويتخذ الله وليا، لأنهما طريقان متباينان، لا يجتمعان هدى وضلالة. وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان.
* (يعدهم ويمنيهم) * لفظان متقاربان والمعنى: أن الذي أقسم عليه من أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها. ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن، أخبر الله عنه بها. والمعنى: أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
* (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * قرأ الأعمش: وما يعدهم يسكون الدال، خفف لتوالي الحركات. وتقدم تفسير الغرور ومعناه: هنا الخدع التي تظن نافعة، ويكشف الغيب أنها ضارة. واحتمل النصب أن يكون مفعولا ثانيا، أو مفعولا من أجله، أو مصدرا على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم، ويكون ثم وصف محذوف أي: إلا غرورا واضحا أو نحوه، أو نعتا لمصدر محذوف أي: وعدا غرور. أي: ذا غرور.
* (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * أخبر تعالى أن المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم، وأنهم لا يجدون عنها مراغا يروغون إليه. وعنها: لا يجوز أن تتعلق بمحذوف، لأنها لا تتعدى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبيينا على إضمارا عني. وجوزوا أن يكون حالا من محيص، فيتعلق بمحيص أي: كائنا عنها، ولو تأخر لكان صفة.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا) * لما ذكر مأوى الكفار، ذكر مأوى المؤمنين، وأسند الفعل إلى نون العظمة، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفا لهم. وقرئ: سيدخلهم بالياء. ولما
(٣٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 ... » »»