تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٦٦
فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * لما ذكر أن الخير في من أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد: ومن يأمر بذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال. وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه بالياء، والباقون بالنون على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: * (نوله ما تولى ونصله) * فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب. ومن قرأ بالياء لحظ الاسم الغائب في قوله: ابتغاء مرضاة الله، وفي قوله: ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة.
* (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له * الهدى * ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته، وبرأ اليهودي، ارتد وذهب إلى مكة وتقدم ذلك موته وسببه. ومما قيل فيه: إنه ركب في سفينة فسرق منها مالا فعلم به، فألقي في البحر. وقيل: لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنما لهم ومات على الشرك. وقيل: نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا، ثم ارتدوا. وتقدم معنى المشاقة في قوله: * (فإنما هم فى شقاق) * ومن يشاقق: عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى: أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية. ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة واطلاعه إياه على ما بيتوه وزوروه، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل، لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه، أو يعرفه من يصدقه. والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرما إذا اطلع على لحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به. وسبيل المؤمنين: هو الدين الحنيفي الذي هم عليه. وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم، وأتبع بلازمه توكيدا.
واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة. وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه. وقال الزمخشري: هو دليل على أن الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول انتهى كلامه.
وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين، ولذلك كان الفعل معطوفا على الفعل، ولم يعد معه اسم شرط. فلو أعيد اسم الشرط وكان، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور ما على ما ادعوا، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايرا لقوله: ومن يشاقق الرسول. وقد قلنا: إنه ليس بمغاير، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه. والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه. واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم. ومعنى قوله: ما تولى قال ابن عطية: وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره. وقال الزمخشري: يجعله بالياء، وما تولى من
(٣٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 361 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 ... » »»