تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٧٣
منه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ثم قال: وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي) لما أثنى على من اتبع ملة إبراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه. لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية إبراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما) * أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات. ونبه بذلك على أن من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه. وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة من، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما موقع هذه الجملة؟ (قلت): هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته انتهى. فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله، كأنه يقول: اعترضت الكلام. وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله: كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله:
* وقد أدركتني والحوادث جمة * أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل * ونحو قال الآخر:
* ألا هل أتاها والحوادث جمة * بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا * ولا نحفظه جاء آخر كلام.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات، أخبر بعظيم ملكه. وملكه بجميع ما في السماوات، وما في الأرض، والعالم مملوك له، وعلى المملوك طاعة مالكه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه، ولما تقدم ذكر الخلة، فذكر أنه مع الخلة عبد الله، وأن الخلة ليست لاحتياج، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لإبراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية.
* (وكان الله بكل شىء محيطا) * أي: عالما بكل شيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها، قللها وكثيرها.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع. منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالا، وفي: فقد خسر خسرانا، وفي: ومن أحسن وهو محسن. والتكرار في: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة في مواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: إبراهيم. والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات. والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملة إبراهيم، وفي: ما في السماوات وما في الأرض. والمقابلة في: من ذكر أو
(٣٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 368 369 370 371 372 373 374 375 376 377 378 ... » »»