تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣١٠
مشبهين لأهل خشية الله. أو أشد خشية، يعني: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأشد معطوف على الحال. (فإن قلت): لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره: يخشون خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ (قلت): أبى ذلك قوله: أو أشد خشية، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد. ولو قلت: يخشون الناس أشد خشية لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول: خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية على حد قولهم: جد جده، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشد خشية من خشية الله. ويجوز على هذا أن يكون محل أشد مجرورا عطفا على خشية الله، يريد: كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها انتهى كلامه. وقد يصح خشية، ولا يكون تمييزا فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري، بل يكون خشية معطوفا على محل الكاف، وأشد منصوبا على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها. وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى: * (أو أشد ذكرا) * وأوضحناه هناك. وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف أي: كخشيتهم الله. وأو على بابها من الشك في حق المخاطب، وقيل: للإبهام على المخاطب. وقيل: للتخيير. وقيل: بمعنى الواو. وقيل: بمعنى بل. وتقدم نظير هذه الأقوال في قوله: * (أو أشد قسوة) * ولو قيل أنها للتنويه، لكان قولا يعني: أن منهم من يخشى الناس كخشية الله، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله.
* (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * الظاهر أن القائلين هذا: هم منافقون، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هاذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هاذه من عندك) * وهذا لا يصدر إلا من منافق. ولولا للتحضيض بمعنى هلا وهي كثيرة في القرآن. والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون. وذكر في حرف ابن مسعود: لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل، فتسر بذلك الأعداء. ومن قال: إنه من قول المؤمنين، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام وكثرته، وهو بعيد. لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله، وعدم استسلامهم له مع قولهم: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقال الزمخشري: لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر كقوله: * (لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق) *. وقال الراغب: وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، يجوز أن يكون تفوهوا به، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيها على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم.
* (قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى) * تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلا في قوله: * (متاع قليل) * وإنما قل: لأنه فان، ونعيم الآخرة مؤبد، فهو خير لمن اتقى الله وامتثل أمره في ما أحب، وفي ما كان شاقا من قتال وغيره. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: ولا يظلمون بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات أي: لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء، فلا ترغبوا عن الأجر.
* (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) * أي: هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة. وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله مستأنفا بأنه لا
(٣١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 305 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 ... » »»