تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٧٢
ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم يضلا لكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * وقرأ النخعي: وتريدون بالتاء باثنتين من فوق، قيل: معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي: تدعون الصواب في اجتنابهم، وتحسبونهم غير أعداء الله. وقرئ: أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها. * (والله أعلم بأعدائكم) * فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة. وفيه إشارة إلى التحذير منهم، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون، والمعنى: أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين، فيجب حذرهم كما قال تعالى: * (هم العدو فاحذرهم) * واعلم على بابها من التفضيل، أي: أعلم بأعدائكم منكم. وقيل: بمعنى عليم، أي عليم بأعدائكم.
* (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) * ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم، فإنه ينصركم عليهم، ويكفيكم مكرهم. وقيل: المعنى وليا لرسوله، نصيرا لدينه.
والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال: سحيم:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفى مطردة كما قال تعالى: * (أو لم * يكف بربك أنه على كل شىء شهيد) * وقال الزجاج: دخلت الباء في الفاعل، لأن معنى الكلام الأمر أي: اكتفوا بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة، ولا يصح ما قال من المعنى، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون، ويكون بالله متعلقا به. وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون، فتناقض قوله. وقال ابن السراج: معناه كفى الاكتفاء بالله، وهذا أيضا يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى. وهذا أيضا لا يصح لأن فيه حذف المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله:
* هل تذكرن إلى الديرين هجرتكم * ومسحكم صلبكم رحمان قربانا * التقدير: وقولكم يا رحمن قربانا. وقال ابن عطية: بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر، أي: اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك. وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج، وهو أفسد من قول الزجاج، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل اختلاف معنى الحرف، إذ بالنسبة لكون الله فاعلا هو زائد، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد. وقال ابن عيسى: إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل، لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره، فضوعف لفظها المضاعفة معناها، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله: * (فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) * لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد: نقول: ورد بعضها. وانتصاب وليا ونصيرا قيل: على الحال. وقيل: على التمييز، وهو أجود لجواز دخول من.
(٢٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 ... » »»