تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢١٥
لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتوا الأزواج قنطارا. والمراد: آتى كل واحد زوجته قنطارا. فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في: آتيتم، المراد منه كل واحد واحد، كما دل لفظ: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة: وإن أردتم. وأريد بقوله: وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن، وهي مفردة على ذلك. وهذا من لطيف البلاغة، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح. وتقدم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير في منه عائد على قنطار. وقرأ ابن محيصن: بوصل ألف إحداهن، كما قرىء: أنها لإحدى الكبقر بوصل الألف، حذفت على جهة التحقيق كما قال:
وتسمع من تحت العجاج لها ازملا وقال:
إن لم أقاتل فألبسوني برقعا وظاهر قوله: فلا تأخذوا منه شيئا تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدال مكانها بإرادته. قالوا: وهذا مقيد بقوله: * (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه) * قالوا: وانعقد عليه الإجماع. ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تأخذ من المختلعة شيئا لقوله: فلا تأخذوا منه شيئا وآية البقرة منسوخة بهذا، وتقدم الكلام في ذلك في سورة البقرة. وظاهر قوله: وآتيتم إحداهن قنطارا، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها، سواء كان مهرا أو غيره.
أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهرا فقط، بل المعنى: أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئا مما آتاها، سواء كان مهرا أو غيره. وقال أبو بكر الرازي: لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما تضمنه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول انتهى كلامه. وهو منه تسليم أن المراد بقوله: وكيف تأخذونه، أي المهر. وبينا أنه لا يلزم ذلك. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز، أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى. وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى. وليس بظاهر لأن الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلا منه، فإذا كان معدوما فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم، في حالة الاستبدال وغيرها. ومفهوم الشرط غير مراد، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية، وهي أولى به من المفارقة. فبين الله أنه لا يأخذ منها شيئا. وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها، مع سقوط حقه عن بضعها، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه. وقرأ أبو السمال وأبو جعفر: شيا بفتح الياء وتنوينها، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء.
* (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * أصل البهتان: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه. أي: يتحير ثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتانا. وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، أي: أتفعلون هذا مع ظهور قبحه؟ وسمي بهتانا لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى
(٢١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 ... » »»