تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢١٠
إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنه عند القرب يصير مضطرا فيكون ذلك سببا للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردود، والمردود مقبولا، * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) * وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أن مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.
وقال الربيع: نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب: بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أن من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله: الذين يعملون السيئات، لأن أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمر، وفينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله: وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفار واردا على سبيل التغليظ كقوله: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) * وقوله: (سقط: فليمت إن شاء يهوديا، أو نصرانيا من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، لأن من كان مصدقا، ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حالة الكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى كلامه، وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين، أحدهما الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني الذين ماتوا على الكفر، وفي هذا الجواب حمل الآية، على أنها أريد بها أحد القسمين، إما الكفار فقط، وهو الذين وصفوا عنده، بأنهم يعملون السيئات، ويموتون على الكفر، وعلل هذا الوجه بقوله لظاهر قوله (وهم كفار) فجعل هذه الحالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار، وإما الفساق من المؤمنين، فيكون قوله (وهم كفار) لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده، فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره للآية أولا، وكل ذلك انتصار لمذهبه، حتى يترتب العذاب إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر لأنه قوله (وهم كفار) ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله (ولا الذين يموتون) وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة، وكما أنه شرط في انتفاء قبول التوبة الذين يعملون السيئات وإيقاعها في حال حضور الموت، وكذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل، حبك الشئ يعمي ويصم، وجاء (يعلمون) بصيغة المضارع، لا بصيغة الماضي إشعارا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضره الموت، وظاهر قوله (تبت الآن) توبة شريطية، فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها، وقوله (وليست التوبة) ظاهره النفي، لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أت توبتهم وإن وجدت ليست مقبولة، وظاهر قوله (ولا الذين يموتون وهم كفار) وقوع الموت حقيقة، فالمعنى أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا، لأنهم ماتوا ملتبسين في الكفر، قيل: يحتمل أن يراد
(٢١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 ... » »»