تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢١٧
تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم، لوجب أن يكون موضع ما من. وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هنا على الوطء، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم. وقال ابن زيد في جماعة: المراد به العقد الصحيح، لا ما كان منهم بالزنا انتهى.
والاستثناء في قوله: إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى: أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دل على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه. فقيل: إلا ما قد سلف أي: لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه. ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح، حمل قوله: إلا ما قد سلف، على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا، فقال: إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، أنه كان فاحشة ومقتا وكأنه قيل: ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم، ويكون على هذا استثناء منقطعا. وقيل عن ابن زيد: إن معنى الآية النهي أن يطأ الرجل امرأة وطنها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة، فإنه يجوز للابن تزوجها، فعلى هذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلا، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله: ما نكح، إذ المراد: ما وطئ آباؤكم. وما وطئ يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير: ما وطئ آباؤكم إلا التي تقدم هو أي: وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله: ما نكح مصدرية كما قررناه، قال: المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم؟ (قلت): كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم. يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فأنكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمجال في التأبيد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في اسم الخياط. انتهى كلامه. وقال الأخفش المعنى: تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك، لأنه ليس الإنكاح أو سفاح، والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله:
* (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) * أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي: بالغة في القبح. ومقت: أي يمقت الله فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. أو تمقته العرب أي: مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروآت في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجئ من زوج الوالد المقتي، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي: ان ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيرا بمعنى لم يزل، فالمعنى: أن ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.
وقال المبرد: هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أن كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار.
وساء سبيلا هذه مبالغة في الذم، كما يبالغ ببئس. فإن كان فيها
(٢١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 ... » »»