تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٦٨
كانوا عليه شرعا قبل البلوغ من اسم اليتم، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد. وأما أن يكون المجاز في أوتوا، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال: الإنفاق عليهم منها شيئا فشيئا، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة. وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعا. وقال ابن زيد: الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا حراما خبيثا، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا. وقيل: كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم، فنهوا عن ذلك. واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمسا وعشرين سنة. قال: لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيها وغيره، أونس منه الرشد أولا، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره. وأجيب بأن هذه الآية عامة وخصصت بقوله: وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال ابن المسيب والنخعي والزهر والضحاك والسدي: كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزيف من ماله. وقال مجاهد وأبو صالح: المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقيل: المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثا وتدعوا أموالكم طيبا. وقيل: المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب. وقيل: لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات، وقيل: لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو: اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو: حفظها والتورع منها. وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الأجرام المتبدلة والمتبدل به، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والجلال. أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر، وإن كان له تعلق ما بقوله: وآتوا اليتامى أموالهم.
وقرأ ابن محيصن: ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية.
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو: أكل أموال اليتامى فنهوا عنه. ومعنى إلى أموالكم: قيل مع أموالكم، وقيل: إلى في موضع الحال التقدير: مضمومة إلى أموالكم. وقيل: تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي: ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم. وحكمة: إلى أموالكم، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق، أنه تنبيه على غنى الأولياء. كأنه قيل: ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي: مع غناكم، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيرا أن يأكل بالمعروف. وهذا نص على النهي عن الأكل، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه.
وقال مجاهد: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم) *. وقال الحسن قريبا من هذا.
قال: تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط، فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية
(١٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 ... » »»