تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٦٤
والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى. وهذا مخالف لكلام المتقدمين، قال بعضهم: ونبه بقوله: وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها، لكونها بعضه. وبث منهما أي من تلك النفس، وزوجها أي: نشر وفرق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعيا، وبث ثلاثيا، وهو الوارد في القرآن رجالا كثيرا ونساء. قيل: نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء، وخص رجالا بذكر الوصف بالكثرة، فقيل: حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه، والتقدير: ونساء كثيرة. وقيل: لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحا، لأنه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة، على أن اللائف بحالهم الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء. وفي تنويع ما خلق من آدم وحواء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين، فإن وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين. وقرئ: وخالق منها زوجها، وبات على اسم الفاعل وهو: خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق.
* (واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام) * كرر الأمر بالتقوى تأكيدا للأول. وقيل: لاختلاف التعليل وذكر أولا: الرب الذي يدل على الإحسان والتربية، وثانيا: الله الذي يدل على القهر والهيبة. بنى أولا على الترغيب، وثانيا على الترهيب. كقوله: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * و * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * كأنه قال: إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. وقرأ الجمهور من السبعة: تساءلون. وقرأ الكوفيون: بتخفيف السين، وأصله تتساءلون.
قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال، كما قالوا: طست فابدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس. قال العجاج:
لو عرضت لأسقفي قس أشعث في هيكله مندس حن إليها كحنين الطس انتهى. أما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة. وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي: إلى أن المحذوفة هي الأولى، وهي تاء المضارعة، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل، والإدغام وهو قريب من الأصل، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف. أما الإدغام فلا يختص به، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع، فقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه، أو تعليل الحذف والإدغام، وليس كذلك. أما إن كان تعليلا فليس كذلك، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلا لهما
(١٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 159 160 161 162 163 164 165 166 167 168 169 ... » »»