فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله: * (وتب علينا) * خاصا بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير. قالوا: ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) *. وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية، كان الدعاء بالتوبة منصرفا لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفا مقدرا، فالتقدير على عصاتنا، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرناه من الاحتمال، خلافا لمن زعم ذلك وقال: التوبة مشروطة بتقدم الذنب، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة. والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى: * (واجنبنى وبنى أن نعبد الاصنام) *، إلى قوله: * (ومن عصانى فإنك غفور رحيم) *، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له، وقراءة عبد الله، وأرهم مناسكهم، وتب عليهم، واحتمال أن يكون: وأرنا مناسكنا على حذف مضاف، أي وأر ذريتنا مناسكنا، كقوله: ولقد خلقناكم، أي خلقنا أباكم. وقال الزمخشري: وتب علينا ما فرط منا من الصغائر، أو استتابا لذريتهما. انتهى. فقوله: ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء. قال ابن عطية: وقد ذكر قولي التثبيت، أو كون ذلك دعاء للذرية، قال: وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك، وبنيا البيت، وأطاعا، أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري: ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن كون أحسن مما هي. انتهى كلام ابن عطية، وفيه خروج قوله: وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد، أي إن الدعاء بقوله: وتب علينا، ليس معناه أنهما طلبا التوبة، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك، وهذا بعيد جدا. قال ابن عطية: وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر. انتهى كلامه. قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي، في (كتاب المحصول) له ما ملخصه: قالت الشيعة، لا يجوز أن يقع منهم ذنب، لا صغير ولا كبير، لا عمدا ولا سهوا، ولا من جهة التأويل. ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر، ولا التبديل في التبليغ، ولا الخطأ في الفتوى. وذكر خلافا في أشياء، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد، لا كبير ولا صغير، وأما سهوا فقد يقع، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا.
* (إنك أنت التواب الرحيم) *: يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما. فناسب ذكر التوبة عليهما، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: * (وتب علينا) *. وتأخرت صفة الرحمة لعمومها، لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا، لأن قبلها * (إنك أنت السميع العليم) *، وبعدها: * (إنك أنت العزيز الحكيم) *.