نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين، ولا اعتبار في ذلك بعدد، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد، وجبت المبايعة على كلهم، خلافا لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال: لا ينعقد بأقل من ذلك، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بأربعين، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بسبعين، ثم من خالف كان باغيا أو ناظرا أو غالطا، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد، خلافا للكرامية، إذ أجازوا ذلك، وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، والقول بالتقية باطل، خلافا للإمامية، ومعناها: أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة، خلافا للرافضة، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرا وعلنا. وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها، خلافا للإمامية، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب، خلافا لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي: الإمامة في الصلاة، وموضوعها علم الفقه.
* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) *: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمنا، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلا للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا: الكعبة، على قول الجمهور. وقيل: المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة، لأنه وصفه بالأمن، وهذه صفة جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، قاله الأخفش، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، كما يقال مقام ومقامه، قال الشاعر:
* ألم تر أن الأرض رحب فسيحة * فهل يعجزني بقعة من بقاعها * ذكر رحبا على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة: مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:
* مثابا لأفناء القبائل كلها * تخب إليها اليعملات الطلائح * ويروى: الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، * (سواء العاكف فيه والباد) *. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطرا، وقال الشاعر:
* جعل البيت مثابا لهم * ليس منه الدهر يقضون الوطر * وقال ابن عباس: معاذا وملجأ. وقال قتادة والخليل: مجمعا. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي: أي مكان. إثابة: واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه. والألف واللام في قوله للناس: أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنه، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن: مصدر