الألفة والأمر بالمعروف، وهو الوفاء والنهي عن المنكر، وهو الحجة. الثالث عشر: هي: تجعلني إماما، وتجعل البيت مثابة وأمنا، وترينا مناسكنا، وتتوب علينا، وهذا البلد آمنا، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم، إذ كلها ابتلاه بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد، ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات، إن كانت أقوالا، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالا، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازا، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) *. وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، والسدل، والسواك، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، والشيب وتغييره، والثريد، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه، وليس كتابنا موضوعا لذلك، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.
فأتمهن: الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى، فالمناسب التطابق في الضمير. وعلى هذا، فالمعنى: أي أكملهن له من غير نقص، أو بينهن، والبيان به يتم المعنى ويظهر، أو يسر له العمل بهن وقواه على إتمامهن، أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن، أو أقام بهن، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن، قاله يمان؛ أو وفى بهن، قاله الربيع، أو أداهن، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال االقاضي: كان قبل النبوة، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب، لأنه جعله إماما، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون الابتلاء مقدما في الوجود على صيرورته إماما. وقال آخرون: إنه بعد النبوة، لأنه لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك، جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق.
* (قال إنى جاعلك) *: تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفا، كانت قال استئنافا، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: * (قال إنى جاعلك للناس إماما) *. وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماما، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بيانا لقوله: ابتلى، وتفسيرا له. للناس: يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماما كائنا للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقا بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماما. قيل: قال أهل التحقيق: والمراد بالإمام هنا: النبي، أي صاحب شرع متبع، لأنه لو كان تبعا لرسول، لكان مأموما لذلك الرسول لا إماما ماله. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، ومن يكون كذلك، لا يكون إلا نبيا. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة، قال تعالى: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) *. والخلفاء أيضا أئمة، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *. فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها، لأنه ذكره في معرض الامتنان، فلا بد أن يكون أعظم نعمة، ولا شيء أعظم من النبوة.