تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٥٦
فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيدا فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقا لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفا، وفأمتعه دليل على جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولا لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضا. فلو كان التمتع قليلا ليس مستحقا بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبرا من حيث وقع جزاء، وقد جوز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري: ومن كفر: عطف على من آمن، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. انتهى كلامه. وتقدم لنا الرد عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر.
وإذا قدرته أمرا، تنافى مع قوله: فأمتعه، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبه التمتع وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلا من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال: فإن قلت: لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى. وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق، فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه. انتهى كلامه. فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بأسش رزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقص ما قدم أولا من أن من كفر معطوف على من آمن. وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء، لأنه لم يرد عليه، لأنه لا يدعي، ويرغب في أن يرزق الكافر، بل قوله تعالى: * (قال ومن كفر) *، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة، ولا تعريف الفرق بينهما، كما زعم.
وقد تقدم تفسير المتاع، وأنه كل ما انتفع به، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء، أو بتيسير المنافع، ومنه متاع الحياة الدنيا، أي منفعتها التي لا تدوم، أو بالتزويد، ومنه: فمتعوهن؛ أي زودوهن نفقة. والمتعة: ما يتبلغ به من الزاد، والجمع متع، ومنه: متاعا لكم. وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه: أمتعت زيدا، جعلته صاحب متاع، كقولهم: أقبرته وأنعلته، وكذلك التضعيف في متع هو: يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم: عدلته. وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير، فينافي ظاهر
(٥٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 551 552 553 554 555 556 557 558 559 560 561 ... » »»