تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٤٨
قال ومن ذريتي، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعدو، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافا إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيدا لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقا بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماما، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماما الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماما. وقرأ زيد بن ثابت: ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم، وذكرنا أنها لغات فيها، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.
* (قال لا ينال عهدي الظالمين) *: والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد: الإمامة، قال مجاهد: أو النبوة، قاله السدي؛ أو الأمان، قاله قتادة. وروي عن السدي، واختاره الزجاج: أو الثواب قاله قتادة أيضا؛ أو الرحمة، قاله عطاء؛ أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله: * (إن الله عهد إلينا) *، * (ألم أعهد إليكم) *؛ أو إدخاله الجنة من قوله: كان له * (عند الله عهدا) *، أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي، قاله الضحاك أيضا؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال: أن العهد هي الإمامة، لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: * (ومن ذريتى) * هو استعلام، كأنه قيل: أتجعل من ذريتي إماما: وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله، وسأل أن يجعل من ذريته إماما، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه لقطه على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * أنه جواب لقول إبراهيم: * (ومن ذريتى) * على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش: الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه. وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن: لم يجعل الله لهم عهدا. قال ابن أبي الفضل: ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال: ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملا غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم: أجيب إلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره: أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال: لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن
(٥٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 543 544 545 546 547 548 549 550 551 552 553 ... » »»