تبينه الآية الأخرى: * (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *، وقوله: * (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) *. لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث، لأن لفظة كن محدثة، ومن يعقل مدلول اللفظ. وكونه يسبق بعض حروفه بعضا، لم يدخله شك في حدوثه، وإذا كان كذلك، فلا خطاب ولا قول لفظيا، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه، فهو من مجاز التمثيل، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به. وقرأ الجمهور: فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزى إلى سيبويه.
وقال غيره: فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرره. وقال ابن عطية: وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث، وقد انتهى ما رده به ابن عطية. ومعنى رده: أن الأمر عنده قد تم، والتكوين حادث، وقد نسق عليه بالفاء، فهو معه، أي يعتقبه، فلا يصح ذلك، لأن القديم لا يعتقبه الحادث. وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه. وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولا وأمرا قديما. أما إذا كان ذلك على جهة المجاز، ومن باب التمثيل، فيجوز أن يعطف على نقول. وقرأ ابن عامر: فيكون بالنصب، وفي آل عمران: * (كن فيكون) * ونعلمه، وفي النحل، وفي مريم، وفي يس، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس، ولم يختلف في * (كن فيكون) * الحق في آل عمران. * (وكن * فيكون) * قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن، لأنه جاء بلفظ الأمر، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه: ائتني فأكرمك، إذ المعنى: إن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك، إذ يصير المعنى: إن يكن يكن، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء، إما بالنسبة إلى الفاعل، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية، عن أحمد بن موسى، في قراءة ابن عامر: أنها لحن، وهذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي قراءة متواترة، ثم هي بعد قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحن، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.
* (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا ءاية) *: قال ابن عباس، والحسن، والربيع، والسدي: نزلت في كفار العرب حين، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك. وقال مجاهطد: في النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال ابن عباس أيضا: اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال رافع بن خزيمة، من اليهود: إن كنت رسولا من عند الله، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله الآية. وقال قتادة: مشركو مكة. وقيل: الإشارة بقوله: * (الذين لا يعلمون) * إلى جميع هذه الطوائف، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب. فإن كان الموصول الجهلة من العرب، فنفى عنهم العلم، لأنهم لم يكن لهم كتاب، ولا هم أتباع نبوة، وإن كان الموصول اليهود والنصارى، فنفى عنهم العلم، لانتفاء ثمرته، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه. وحذف مفعول العلم هنا اقتصارا، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم، لا نفي علمهم بشيء مخصوص، فكأنه قيل: وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك. ومعمول القول، الجملة التخصيصية وهي: * (لولا يكلمنا الله) *؛ كما يكلم الملائكة، وكما كلم موسى