تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٥٣٧
عليه السلام، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو، * (وقال الذين لا) *، أي هلا يكون أحد هذين، إما التكلم، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحودا لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها. ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.
* (كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) *: تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله: * (والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * والذين من قبلهم. إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب، أو مشركي مكة، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم. وإن فسر باليهود أو النصارى، فالذين من قبلهم أسلافهم، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله، وإن لم تكن نفس تلك المقالة، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى. * (تشابهت قلوبهم) *: الضمير عائد على * (الذين لا يعلمون) *، * (والذين من قبلهم) *. لما ذكر تماثل المقالات، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل، كقوله تعالى: * (أتواصوا به) *. قيل: تشابهت قلوبهم في الكفر. وقيل: في القسوة. وقيل: في التعنت والاقتراح. وقيل: في المحال. وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو حيوة: تشابهت، بتشديد الشين. وقال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز، لأنه فعل ماض، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي، إنما يكون في المضارع نحو: تتشابه، وحينئذ يجوز فيه الإدغام. أما الماضي فليس أصله تتشابه. وقد مر نظير هذه القراءة في قوله: * (إن البقر تشابه علينا) *، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.
* (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *: أي أوضحنا الآيات، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها، إنما هو على سبيل التعنت. هذا، وهي آيات مبينات، لا لبس فيها، ولا شبهة، لشدة إيضاحها. لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقنا، أما من كان في ارتياب، أو شك، أو تغافل، أو جهل، فلا ينفع فيه الآيات، ولو كانت في غاية الوضوح. ألا ترى إلى قولهم: * (إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *؟ وقول أبي جهل، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر، فأخبروه به، فقال بعد ذلك: هذا سحر مستمر. ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون، قال في آخرها: * (لقوم يوقنون) *. والإيقان: وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم، أي من كان موقنا، فقد أوضحنا له الآيات، فآمن بها، ووضحت عنده، وقامت به الحجة على غيره. وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية، إذ الآيات قد بينت، فلم يكن آية واحدة، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها، بل ذلك جمع آيات بينات، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين.
* (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) *: بشيرا لمن آمن، ونذيرا لمن كفر. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر أنه بين الآيات، ذكر من بينت على يديه، فأقبل عليه وخاطبه صلى الله عليه وسلم) ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال: * (إنا أرسلناك بالحق) *، أي بالآيات الواضحة، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام. وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيرا ونذيرا على الحال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالا من الحق، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضا بالبشارة والنذارة. والأظهر الأول.
(٥٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 532 533 534 535 536 537 538 539 540 541 542 ... » »»