تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٩٢
سجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقيا لك، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دل عليه ما قبله، أي تقديسنا لك. والأحسن أن تكون معدية للفعل، كهي في قوله: * (يسبح لله) *، * (وسبح * لله) *. وقد أبعد من ذهب إلى أن هذه الجملة من قوله: * (ونحن نسبح) * استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أم نتغير، بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثل قوله:
* لعمرك ما أدري وإن كنت داريا * بسبع رمين الجمر أم بثمان * يريد: أبسبع، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة. ولما كان ظاهر قول الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، مما لا يناسب أن يجاوبوا به الله، إذ قال لهم: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *. وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض، لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية. وهي مسألة يتكلم عليها في أصول الدين، ودلائلها مبسوطة هناك، احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدم قوله على ما سبح له، وقوي عنده من التأويل الذي هو سائغ في علم اللسان. وقال بعض أهل الإشارات: الملائكة لما توهموا أن الله تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على الله، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة، والنصح في ذلك واجب على المستشار، ولله تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار.
ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب (كتاب فك الأزرار)، وهو الشيخ صفي الدين أبو عبد الله الحسين بن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي، قال: في كتاب ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض، وهم منزهون عن ذلك والبيان، أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهورإبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين: فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة. فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه والله أعلم. انتهى كلامه. وهو تأويل حسن، وصار شبيها بقوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) *، لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبة. وقيل في قوله: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجور والحيف، ورأى في ذلك مصلحة. ولذلك جاز ليوسف، على نبينا وعليه السلام، طلبه الولاية، ومدح نفسه بما فيها فقال: * (اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم) *، قال: * (إني أعلم) *، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو نكرة موصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسما بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب،
(٢٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 297 ... » »»