تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٩٧
الثاني: إبدال الهمزة الأولى واوا مكسورة وإدغام الواو الساكنة قبلها فيها وتحقيق الثانية. الثالث: إبدال الهمزة الأولى ياء، نحو: بالسوي. الرابع: إبدالها واوا من غير إدغام، نحو: السوو. وقرأ أبو عمرو: بحذف الأولى، وقرأ الكوفيون وابن عامر: بتحقيق الهمزتين.
* (صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا) *: أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه: تلبية بعد تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحا، وأنه لا يكون منصوبا بل مرفوعا، وأنه لم تسقط النون للإضافة، وأنه التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز بعضهم أن يكون فاعلا، لأن المعنى تتزهت. وقد ذكرنا، حين تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف. وزعم الكسائي أنه منادي مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حول حرف النداء عليه، ونقل لنا. ولما سأل تعالى الملائكة، ولم يكن عندهم علم بالجواب، وكانوا قد سبق منهم قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * الآية، أرادوا أن يجيبوا بعدم العلم إلا ما علمهم، فقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله اعتذارا وأدبا منهم في الجواب، وإشعارا بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، فقالوا: سبحانك، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا التي بنيت معها النكرة، فاستغرف كل فرد من أنواع العلوم، ثم استثنوا من ذلك ما علمهم هو تعالى، فقالوا: * (إلا ما علمتنا) *، وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول لله تعالى.
قال أبو عثمان المغربي: ما بلاء الخلق إلا الدعاوى. ا ترى أن الملائكة لما قالوا: ونحن نسبح بحمدك، كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: لا علم لنا؟ وروي معنى هذا الكلام عن جعفر الصادق، وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية في عن الزهراوي: أن موضع ما من قولهم: ما علمتنا، نصب بعلمتنا، وهذا غير معقول. ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف به وجه وهو أن يكون استثناء منقطعا فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب محذوفا كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل، أي شيء علمهم علموه، ويكون هذا أبلغ في ترك الدعوى، إذ محوا أنفسهم من سائر العلوم ونفوا جميعها، فلم يستثنوا لهم شيئا سابقا ماضيا تحلوا به، بل صاروا إلى الجهل الصرف والتبري من كل علم. وهذا الوجه ينافي ما روي أنه كان أعلمهم تعالى، أو علموا باطلاع من اللوح بأنه سيكون في الأرض من يفسد ويسفك، فإذا صح هذا كانوا قد بالغوا في نفي كل علم عنهم، وجعلوا هذا العلم الخاص كالمعدوم، ومن اعتقد أن الملائكة غير معصومين جعل قولهم، لا علم لنا توبة، ومن اعتقد بعصمتهم قال: قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون إلا ما علموا، أو قالوا: * (أتجعل فيها) * الآية، لأنه أعلمهم بذلك، وأما الأسماء فكيف يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه، ثم أردفوا الوصف بالعلم، الوصف بالحكمة، لأنه سبق قوله: * (إني جاعل فى الارض خليفة) *. فلما صدر من هذا المجعول خليفة، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله: وجعله خليفة.
فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله، ثم اعترفوا بالجهل، ثم نسبوا إلى الله العلم والحكمة، وناسب تقديم الوصف
(٢٩٧)
مفاتيح البحث: الصدق (1)، الجهل (2)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 292 293 294 295 296 297 298 299 300 301 302 ... » »»