تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٦٨
أو موصوفة وصفتها الظرف، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاما، فذلك من عطف الجمل، أو كانت البعوضة خبرا لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت، قاله ابن عباس: ويكون ذكر البعوضة تنبيها على الصغر، وما فوقها تنبيها على الكبر، وبه قال أيضا قتادة، وابن جريج، وقيل: المعنى فما فوقها في الصغر، أي وما يزيد عليها في الصغر، كما تقول: فلان أنذل الناس، فيقال لك: هو فوق ذلك، أي أبلغ وأعرق في النذالة، قاله أبو عبيدة، والكسائي.
وقال ابن قتيبة: فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر. وقيل: أراد ما فوقها وما دونها، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها، كما اكتفى في قوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * عن قوله: والبرد، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه: أحدها: أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام، وأظهر فيها، مع صغر حجمها، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة. وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء. الثاني: أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال. الثالث: أن في البعوضة، مع صغر حجمها وضعف بنيانها، من حسن التأليف ودقيق الصنع، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة، ما يعجز أن يحاط بوصفه، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها، مع لينها، جلد الجاموس والفيل، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل، فلا يستحي الله تعالى أن يضرب بها المثل، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها، كما قال تعالى: * (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) *. الرابع: أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت، وما يجري مجراه، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل، وأحسن ما يكون من التشبيه، لأن الذي جعلها مثلا لهم في غاية ما يكون من الحقارة، وضعف القوة، وخسة الذات والفعل، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه، ولا عذب مذاق التمثيل، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه. وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد، إذ هي أبلغ من: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعا لا محالة، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط، والضمير في أنه عائد على المثل، وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال: فيعلمون أن ضرب المثل. وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي، أن فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق، والأظهر الأول لدلالة قوله تعالى: * (ماذا أراد الله بهاذا مثلا) * فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل. والتقسيم ورد على شيء واحد، فظهر أنه عائد على المثل، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق
(٢٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 ... » »»