تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٦٤
المحقرات، فرد الله عليهم بهذه الآية. وقال الحسن، ومجاهد، والسدي، وغيرهم: نزلت في المنافقين، قالوا: لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا: الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال بها، فرد الله عليهم بهذه الآية، وقيل نزلت في المشركين، والكل محتمل، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل، وعلى الكافرين * (والذين في قلوبهم مرض) *، وهم المشركون والمنافقون، وكلهم كانوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم) متوافقين. وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف، وكلهم من الذين كفروا، قاله القفال، قال: ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب. وقال الربيع بن أنس: هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها، وأن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت وامتلأت ماتت. كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها كان سببا لهلاكهم، وقيل: ضرب ذلك تعالى مثلا لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثوابا أو عقابا، والأظهر في سبب النزول القولان الأولان. ومناسبة هذه الآية ظاهرة، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب. وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) *، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام، ولسان العرب ملآن من ذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر:
* وإني لألقى من ذوي الضغن منهم * وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره كما لقيت ذات الصفا من حليفهاوما انفكت الأمثال في الناس سائره * فذكر قصة ذات الصفا، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر. والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير. وكذلك أيضا قرأت أمثالا في الزبور. فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد.
وقرأ الجمهور: يستحيي بياءين، والماضي: استحيا، وهي لغة أهل الحجاز، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد: كاستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. وقد تقدم ذكرها عند قوله: * (وإياك نستعين) *، وهذا هنا من الحياء. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنيا عن المجرد بل هو موافق للمجرد، وهو أحد المعاني أيضا الذي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال حيي الرجل كما يقال: نسي وخشي وشظي الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة، كما قالوا: فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا، انتهى كلامه. فظاهره أنه يقال: من الحياء حيي الرجل، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرد، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنيا عن المجرد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر:
(٢٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»