تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٦٥
* ألا تستحي منا ملوك وتتقي * محارمنا لا يبوء الدم بالدم * والماضي: استحى، قال الشاعر:
* إذا ما استحين الماء يعرض نفسه * كرعن بسيت في إناء من الورد * واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا، وليس هذا الحذف مختصا بالماضي والمضارع، بل يكون أيضا في سائر التصرفات، كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعديا بنفسه، ويكون متعديا بحرف جر، يقال: استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل * (أن يضرب) * أن يكون مفعولا به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى: * (أن لهم جنات) *، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.
واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه، فقيل: المعنى لا يترك، فعبر بالحياء عن الترك، قاله الزمخشري وغيره، لأن الترك من ثمرات الحياء، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب. وقيل: المعنى لا يخشى، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته، ورجحه الطبري. وقد قيل في قوله تعالى: * (وتخشى الناس) *، أن معناه تستحي من الناس. وقيل: المعنى لا يمتنع. وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى، يجوز أن يوصف الله تعالى بها، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وقيل: ينبغي أن تمر على ما جاءت، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق. والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فلذلك أوله أهل العلم، وقد جاء منسوبا إلى الله مثبتا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه، وقد يجوز أيضا في الاستحياء، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو:
(٢٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 ... » »»