تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٥٩
متشابها، أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها. ومجئ الجملة المصدرة بماض حالا ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.
قال تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، أي وقد قعدوا. وقال الذي نجا منهما: * (وادكر بعد أمة) * أي وقد ادكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال، وكذلك أيضا لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى: * (قالوا هاذا الذى رزقنا من قبل) * لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معنى لازما في حيز كلما، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها. وقول الزمخشري في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضا، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. فالظاهر ما ذكرناه أولا من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط، وانتصب متشابها على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمة، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا به، والتشابه قيل: في الجودة والخيار، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء، قاله قتادة، وذلك كقوله تعالى: * (كتابا متشابها) *، قال ابن عطية: كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه، فهذا تشابه ما أو في اللون، وهو مختلف في الطعم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، أو في الطعم واللذة والشهوة، وإن اختلفت ألوانه، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم، قاله عكرمة وغيره. وروى ابن المبارك حديثا يرفعه. قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم): إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم.
أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ما هي؟) قال: السدرة، فإن لها شوكا مؤذيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أليس يقول في سدر مخضود، خضد الله، الشوك، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرا يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لونا طعاما ما فيه لون يشبه الآخر؟) واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا، وأطلق القول في كونه كان مشابها لثمر الدنيا، ولم يكن أجناسا أخر.
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية، وتفاوت في الجنس، سر به واغتبط بحصوله. ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه. وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري. والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له، ولم يقيد التشابه بل أطلق، فتقييده يحتاج إلى دليل. ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثا الأزواج لأن بها تمام الالتئام، فقال تعالى
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»