على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، انتهى كلامه. وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله: على حسب استحقاق العاملين. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس، واللام في لهم للاختصاص، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود المضير على الذين آمنوا، فهو أسر للسامع، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه * (إن لنا لاجرا) *، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه، وذلك مفهوم من غير هذه الآية. وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة، سواء كان مرتكبا كبيرة أم غير مرتكب، تائبا أو غير تائب، ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية. وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل، فلا يحتاج إلى حذف. وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار، احتاج، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها. وقيل: عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها. وقيل: المعنى في تجري من تحتها: أي بأمر سكانها واختيارهم، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم، كما قيل فيم قوله تعالى، حكاية عن فرعون: * (وهاذه الانهار تجرى من تحتى) *، أي بأمري وقهري. وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة: أن لهم جنات تجري من تحتهم، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف، أي من تحت أهلها، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل: المعنى في من تحتها: من جهتها. وقد روي عن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة. وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه، لا سيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلىء له خريرا، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي، رحمه الله تعالى، من كلمة:
* وتحدث الماء الزلال مع الحصى * فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى * خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم): (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن