تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٥٦
وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعده). ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى: * (فيها أنهار من ماء غير ءاسن) * الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا، كما قال تعالى: * (واسئل القرية) *، وكما قال الشاعر:
* نبئت أن النار بعدك أوقدت * واستب بعدك يا كليب المجلس * انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى: * (واشتعل الرأس شيبا) *، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى: * (مفتحة لهم الابواب) *، أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفا، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضا من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:
* قطوب رحيب الجيب منها رقيقة * بجس الندامى بضة المتجرد * ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال. وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة، إن قلنا: إن الألف واللام فيها للعهد، أو إشارة إلى أنهار الماء، وهي أربعة أو خمسة، في الصحيح. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذكر الجنة فقال: (نهران باطنان: الفرات والنيل، ونهران ظاهران: سيحان وجيحان). وفي رواية سيحون وجيحون، وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن ماء الكوثر قال: (ذاك نهر أعطانيه الله تعالى، يعني في الجنة، ماؤه وأشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل) الحديث. وإن كانت أنهارا كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية.
* (كلما رزقوا) *، تقدم الكلام على كلما عند قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم) *، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات
(٢٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 ... » »»