تفسير ابن عربي - ابن العربي - ج ٢ - الصفحة ٢٩
الأوضاع المخصوصة، أي: التي تأثرت من تأثير النفس الحيوانية التي هي فرس الحياة، فيمثل الطبيعة بصورة العجل المفرغ في قالب المواد الذي همه الأكل والشرب ودأبه اللذة والشهوة دون العمل والسعي بالإثارة والتعب كما أشير إليه، وينتفخ فيه روح الهوى فيحيا ويتقوى ويصيح ذا خوار، فيعبده جميع القوى ويتخذه إلها، وكلما نبهها العقل المؤيد بنور القلب على ضلالها وفتنتها ودعاها إلى الحق ومتابعة الرأي العقلي وطاعته، خالفته حتى يرجع إليها القلب المنور بنور الحق، المؤيد بتأييد القدس، غضبان لله تعالى أسفا على ضلالها وتفرقها في الدين، ويعيرها ويعنفها بلسان النفس اللوامة، ويأخذها بالوعد والوعيد، ويذكرها طول العهد من قرب الرب بمقتضى الخلقة والنشأة والسقوط عن الفطرة، ويخوفها باستحقاق الغضب والسخطة عن نسيان العهد وإخلاف الوعد حين الإقرار بالربوبية عند ميثاق الفطرة، فلا ينجع فيها القول إذا صارت مأسورة في أسر الهوى، منقادة لسلطان التخيل، مستسلمة للردى، ولا طريق إلا خرق الطبيعة الجسدانية بمبرد المجاهدة وإحراقها بنار الرياضة ونسفها برياح نفحات الرحمة الإلهية التي إذا هبت بها لاشت في يم الهيولى الجرمية لا حياة بها ولا حراك بعد تغير القوة العاقلة بعد متابعتها للقلب ومشايعتها للسر في التوجه، وبوجود موافقتها للقوى في الميل إلى الطبيعة والأخذ برأسها إلى جهتها العادية التي تلي الروح بتأثير النور فيه حتى تنفعل وتتأثر بشعاع القدس ونور الهداية الحقانية ولحيتها التي هي الهيئة الذكورية وصورة التأثير فيما تحت، أي: جهتها السفلية التي تلي القوى النفسانية. وجرها إليه، أي: الجهة العلوية وجناب الحق وعالم القدس الذي هو فيه، فيتقوى بالأيد الإلهي والقدرة الربانية وجولانها فتؤثر فيها وتطوعها بأمر الحق لها وللقلب، ويستخلصها من قهر التخيل والوهم. واعتذار هارون إشارة إلى أن العقل غير المتنور بنور الهداية، المتأيد بأمر الشريعة، لا يقدر أن يحافظ القوى ويعاند التخيل والهوى، ولا يزيدها إلا التفرقة الموقعة في الردى. وعند استيلاء نور القلب والعقل وقهر الطبيعة بالكلية وحصول الاستقامة في الطريقة، ينخزل التخيل وينعزل ولا يقدر أن يماس شيئا من القوى بتخييله ولا يقاربه قوة منها بقبول تسويله فيصير ملعونا، مطرودا، فيقول: لا مساس. وله موعد، أي: حد ورتبة لا يجد خلفا فيه ولا يتجاوز، فيترأس، ويستولي، ويروج أكاذيبه وغلطه بالمعقولات، وينفقه في المرادات.
تفسير سورة طه من [آية 98 - 104]
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»