تفسير ابن عربي - ابن العربي - ج ٢ - الصفحة ١٣
الصفاء والتجرد والنورية، والنفوس الشريرة تستمد من النفوس المظلمة الأرضية لمناسبتها إياهم ومجانستها لهم في الظلمة والكدورة والخبث، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ظلمتهم وتماديهم في الغواية والاحتجاب، حيث تنزل عليهم الشياطين دائما فتؤزهم أي: تحرضهم وتخذلهم بإلقاء الوساوس والهواجس من أنواع الشر على التوالي * (إنما نعد لهم عدا) * أي: أنفاسهم المقربة لهم إلى المصير إلى وبال كفرهم وأعمالهم وعذاب هيئاتهم وعقائدهم، فإن لكل أجلا معينا سيصير إليه عن قريب.
* (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * إنما ذكر اسم الرحمن لعموم رحمته بحسب مراتب تقواهم كما ذكر في قوله: * (من كان تقيا) * [مريم، الآية: 63]، ولهذا لما سمعها بعض العارفين قال: ومن كان مع الرحمن فإلى من يحشر؟ فأجابه بعضهم بقوله: من اسم الرحمن إلى اسم الرحمن ومن اسم القهار إلى اسم اللطيف. فإن المتقي عن المعاصي والرذائل وصفات النفس الذي هو في أول درجة التقوى قد يحشر إلى الرحمن في جنة الأفعال ثم الصفات ثم بعد الوصول إلى الله في جنة الصفات له سير في الله بحسب تجليات الصفات، وإذا انتهى السير إلى الذات يكون السير سير الله * (وفدا) * مكرمين.
* (ونسوق المجرمين) * لأعمالهم الخبيثة * (إلى جهنم) * الطبيعة * (وردا) * كأنهم إبل عطاش فيوردهم النار * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * هذا العهد هو ما عاهد الله أهل الإيمان من الوفاء بالعهد السابق بالتوبة والإنابة إليه في الصفاء الثاني بعد الصفاء الأول، وذلك الانسلاخ عن حجب صفات النفس والاتصاف بصفات الرحمن والاتصال بعالم القدس الذي هو حضرة الصفات ولهذا ذكر اسم الرحمن المعطي لأصول النعم وجلائلها المشتمل على سائر الصفات اللطيفة، أي: لا يملك أحد أن يشفع له بالأمداد الملكوتية والأنوار القدسية إلا من استعد لقبول الرحمة الرحمانية واتصل بالجناب الإلهي بالعهد الحقيقي. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: ' أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهدا تؤتنيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد '.
* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * لكونهم في حيز الإمكان ومكمن العدم لا وجود لهم ولا كمال إلا به، أفاض باسم الرحمن وجوداتهم وكمالاتهم، فهم أنفسهم ليسوا شيئا، فلو لم يعبدوه حق عبادته باستعدادات أعيانهم في العدم لما وجدوا، ولو لم يعبدوه بعد الوجود بالقيام بحقوق نعمه التي أنعمها عليهم لما
(١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 ... » »»