تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٤٣
تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله: * (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) * (البقرة: 29) فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى، فلهذا المعنى قال إياك نعبد، فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر. الوجه الثاني: في دلائل هذا الحصر والتعيين: وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وللعبد أحوال ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: أما الماضي فقد كان معدوما محضا كما قال تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * (مريم: 9) وكان ميتا فأحياه الله تعالى كما قال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) وكان جاهلا فعلمه الله كما قال: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * (النحل: 78) والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديما أزليا، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوما كان محتاجا إلى الرب الرحمن الرحيم، أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات، فقال الله تعالى: أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود. أما بعد أن أصرت موجودا فقد كثرت حاجاتك إلي فأنا رب رحمن رحيم، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى، فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر. الوجه الثالث: في دليل هذا الحصر، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادرا عالما محسنا جوادا كريما حليما، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه؛ لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكا فيه، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبودا للخلق أمر يقيني، وأما كون غيره معبودا للخلق فهو أمر مشكوك فيه، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *. الوجه الرابع: أن العبودية ذلة ومهانة إلا
(٢٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 248 ... » »»