أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٦٤
الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي لكنت له فئة! فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال: أنا فئة لكم وليعنفهم. وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو يكمنوا قوله لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم. فإذا بلغوا اثني عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه، واحتج بحديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلب "، وفي بعضها: " ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم ". وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟
فقال له مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت في سعة من التخلف، وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر. وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن. والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتمعت كلمتهم " وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم.
قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قيل في الفتنة وجوه، فروي عن عبد الله أنه من قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) [التغابن:
15]. وقال الحسن: " الفتنة البلية ". وقيل: هي العذاب. وقيل: هي الفرح الذي يركب الناس فيه بظلم. وروي عن ابن عباس أنه قال: " أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ". ونحوه ما روي أنه قيل: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث ". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أكثر ممن يعمل فلم ينكروا إلا عمهم الله بعذاب "، فحذرنا الله من عذاب يعم الجميع من العاصين ومن لم يعص إذا لم ينكره. وقيل إنما يعم من قبل أن الفرح والفتنة إذا وقعا دخل ضررهما على كل واحد منهم.
قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) يعني ما كان ليعذبهم عذاب الاستيصال وأنت فيهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين ولا يعذبون وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة فيعمهم بالعذاب بعد خروج
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»