أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٦٢
لا تثبت فيه الأقدام فأنزل الله تعالى من المطر ما لبد الرمل وثبت عليه الأقدام، وقد روي ذلك في التفسير.
قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) أي أنصركم (فثبتوا الذين آمنوا) وذلك يحتمل وجهين، أحدهما: إلقاؤهم إلى المؤمنين بالخاطر والتنبيه أن الله سينصرهم على الكافرين فيكون ذلك سببا لثباتهم وتحزبهم على الكفار، ويحتمل أن يكون التثبيت بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سينصره والمؤمنين فيخبر النبي عليه السلام بذلك المؤمنين فيدعوهم ذلك إلى الثبات.
ثم قال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفا من تراب ورمى به وجوههم فانهزموا ولم يبق منهم أحد إلا دخل من ذلك التراب في عينيه.
وعنى بذلك أن الله بلغ ذلك التراب وجوههم وعيونهم، إذ لم يكن في وسع أحد من المخلوقين أن يبلغ ذلك التراب عيونهم من الموضع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه كلها من دلائل النبوة. ومنها وجود مخبرات هذه الأخبار على ما أخبر به، فلا يجوز أن يتفق مثلها تخرصا وتخمينا. ومنها ما أنزل من المطر الذي لبد الرمل حتى ثبتت أقدامهم عليه وصاروا وبالا على عدوهم، لأن في الخبر أن أرضهم صارت وحلا حتى منعهم من المسير. ومنها الطمأنينة التي صارت في قلوبهم بعد كراهتهم للقاء الجيش. ومنها النعاس الذي وقع عليهم في الحال التي يطير فيها النعاس، ومنها رميه للتراب وهزيمة الكفار به.
الكلام في الفرار من الزحف قال الله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة). روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر، قال أبو نضرة: " لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم ". وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. فقول أبي نضرة أنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين غلط لما وصفنا. وقد قيل إنهم لم يكن جائزا لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزا لهم عنه، قال الله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) [التوبة: 120] فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلموه، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس كما قال الله تعالى: (والله يعصمك من
(٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 ... » »»