أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٥٦١
السلام: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " وإنما هو عائد في الموهوب، وكقولنا:
اللهم أنت رجاؤنا، أي من رجونا، وقال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر: 99] يعني: الموقن به. وقال الشاعر:
أخبر من لاقيت إن قد وفيتم * ولو شئت قال المنبؤون قد أساؤوا وإني لراجيكم على بطء سعيكم * كما في بطون الحاملات رجاء يعني مرجوا. وكذلك قوله: (ثم يعودون لما قالوا) معناه: لما حرموا، فيستبيحونه فلا فعليهم الكفارة قبل الاستباحة. ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين، أحدهما: أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العود إمساكها على النكاح، لأن العود لا محالة قد اقتضى عودا إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه، فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير. والثاني: أنه قال: (ثم يعودون) و " ثم " يقتضي التراخي، ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية، وأما من جعل العود العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضا، لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة، والعزيمة على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء، فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها. وأيضا لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا تتعلق بها الأحكام، ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ".
فإن قيل: هلا كان العود إعادة القول مرتين، لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) [الأنعام: 28] ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه! قيل له: هذا خطأ من وجهين، أحدهما: أن إجماع السلف والخلف جميعا قد انعقد بأن هذا ليس بمراد، فقائله خارج عن نطاق الاجماع. والثاني: أنه يجعل قوله:
(ثم يعودون لما قالوا) تكرارا للقول واللفظ مرتين، والله تعالى لم يقل ثم يكررون القول مرتين، ففيه إثبات معنى لا يقتضيه اللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه، وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة، فالقائل بذلك خارج عن الاجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها.
فإن قيل: وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر. قيل له: إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول، فجاز أن يكون ذلك عودا لما قال، إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عودا لما قال من إيجاب التحريم. ومن جهة أخرى أن الوطء إذا
(٥٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 556 557 558 559 560 561 562 563 564 565 566 ... » »»