أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٦٥
النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يحكم في الانسان بما لا يحكم به في نفسه لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى.
قال أبو بكر: الخبر الذي قدمنا لا ينافي ما عقبناه به من المعنى ولا يوجب الاقتصار بمعناه على قضاء الدين المذكور فيه، وذلك لأنه جائز أن يكون مراده أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم في أن يختاروا ما أدعوهم إليه دون ما تدعوهم أنفسهم إليه وأولى بهم في الحكم عليهم ولزومهم اتباعه وطاعته، ثم أخبر بعد ذلك بقضاء ديونهم.
وقوله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم)، قيل فيه وجهان، أحدهما: أنهن كأمهاتهم في وجوب الإجلال والتعظيم، والثاني: تحريم نكاحهن. وليس المراد أنهن كالأمهات في كل شيء، لأنه لو كان كذلك لما جاز لأحد من الناس أن يتزوج بناتهن، لأنهن يكن أخوات للناس، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم بناته، ولو كن أمهات في الحقيقة ورثن المؤمنين.
وقد روي في حرف عبد الله: " وهو أب لهم " ولو صح ذلك كان معناه أنه كالأب لهم في الإشفاق عليهم وتحري مصالحهم، كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة: 128].
وقوله تعالى: (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا). روي عن محمد ابن الحنفية أنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني. وعن الحسن: " أن تصلوا أرحامكم ". وقال عطاء: هو المؤمن والكافر بينهما قرابة إعطاؤه له أيام حياته ووصيته له ". وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) قال: " إلا أن يكون لك ذو قرابة ليس على دينك فتوصي له بشيء هو وليك في النسب وليس وليك في الدين ".
وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، من الناس من يحتج به في وجوب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم التأسي به فيها، ومخالفو هذه الفرقة يحتجون به أيضا في نفي إيجاب أفعاله. فأما الأولون فإنهم ذهبوا إلى أن التأسي به هو الاقتداء به، وذلك عموم في القول والفعل جميعا، فلما قال تعالى: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) دل على أنه واجب، إذ جعله شرطا للإيمان كقوله تعالى: (واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 57] ونحوه من الألفاظ المقرونة إلى الإيمان، فيدل على الوجوب، واحتج الآخرون بأن قوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) يقتضي ظاهره الندب دون الإيجاب، لقوله تعالى: (لكم) مثل قول القائل: " لك أن تصلي ولك أن تتصدق لا دلالة فيه على الوجوب بل يدل ظاهره على أن له فعله وتركه، وإنما كان يدل على
(٤٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 460 461 462 463 464 465 466 467 468 469 470 ... » »»