أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٤٥
يديه في الدعاء لا يردهما حتى يمسح بهما وجهه ".
قال أبو بكر: في هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره، لأن الخفية هي السر، روي ذلك عن ابن عباس والحسن. وفي ذلك دليل على أن إخفاء " آمين " بعد قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أفضل من إظهاره لأنه دعاء، والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما) [يونس: 89] قال:
كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فسماهما الله داعيين. وقال بعض أهل العلم: إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يشوبه رياء.
وأما التضرع فإنه قد قيل إنه الميل في الجهات، يقال ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بأصبعيه يمينا وشمالا خوفا وذلا، قال: ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه، والمضارعة المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه كان يدعو ويشير بالسبابة ". وقال ابن عباس: " لقد رئي النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعا يديه يدعو حتى إنه ليرى ما تحت إبطيه ". وقال أنس: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه ". وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رفع اليدين في الدعاء والإشارة بالسبابة دليل على صحة تأويل من تأول التضرع على تحويل الأصبع يمينا وشمالا.
قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة). قال أبو بكر: إنما قال تعالى: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) لأنه لما قال:
(ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) جاز أن يسبق إلى وهم بعض السامعين أنه كان عشرين ليلة ثم أتمها بعشر فصار ثلاثين ليلة، فأزال هذا التوهم والتجوز وأخبر أنه أتم الثلاثين بعشر غيرها زيادة عليها.
قوله تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك). قيل إنه سأل الرؤية على جهة استخراج الجواب لقومه لما قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ويدل عليه قوله تعالى:
(أتهلكنا بما فعل السفهاء منا). وقيل: إنه سأله الرؤية التي هي علم الضرورة، فبين الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا.
فإن قيل: فلم جاز أن يسأل الرؤية وهي غير جائزة على الله تعالى؟ وهل يجوز على هذا أن يسأله ما لا يجوز على الله تعالى من الظلم؟. قيل له: لأنه لا شبهة في فعل الظلم أنه صفة نقص وذم فلا يجوز سؤال مثله، وليس كذلك ما فيه شبهة ولا يظهر حكمه إلا بالدلالة، وهذا إن كان سأل الرؤية من غير تشبيه على ما روي عن الحسن والربيع بن أنس والسدي وإن كان إنما سأل الرؤية التي هي علم الضرورة أو استخراج الجواب لقومه،
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»