الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة، فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوبا من غير بدل عن الستر دل على أنه ليس من فرضه. قيل له: هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأمي والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها، ولم يخرجها ذلك من أن تكون فرضا.
وزعم بعض من يحتج لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الانسان أن ينوب بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوي بالإفتتاح أنه لتلك الصلاة. وهذا كلام واه جدا فاسد العبارة مع ضعف المعنى، وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي لا تصح إلا به كالطهارة، كما أن استقبال القبلة من شروطها، ولا يحتاج الاستقبال إلى نية، والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية، والقيام في حال الافتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية، والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الافتتاح من فروضها ولا يحتاج لشئ من ذلك إلى نية.
فإن قيل: لأن نية الصلاة قد أغنت عن تجديد النية لهذه الأفعال. قيل له: وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر.
وقوله تعالى: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخذ ثوب نظيف مما يتزين به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ندب إلى ذلك في الجمع والأعياد "، كما أمر بالاغتسال للعيدين والجمعة وأن يمس من طيب أهله.
وقوله تعالى: (و كلوا واشربوا ولا تسرفوا) الآية. ظاهره يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال والإيجاب في بعضها، فالحال التي يجب فيها الأكل والشرب هي الحال التي يخاف أن يلحقه ضرر بكون ترك الأكل والشرب يتلف نفسه أو بعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات، فواجب عليه في هذه الحال أن يأكل ما يزول معه خوف الضرر، والحال التي هما مباحان فيها هي الحال التي لا يخاف فيها ضررا بتركها. وظاهره يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر الأشربة مما لا يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة أن لا يكون مسرفا فيهما. والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام وتارة يكون بمجاوزة الحد في الانفاق فيكون ممن قال الله تعالى: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) [الإسراء: 27]. والإسراف وضده من الإقتار مذمومان، والاستواء هو التوسط، ولذلك قيل: دين الله بين المقصور و الغالي،