أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٨٩
لم تقع به فرقة فليس بتفريق من النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وإنما هو إخبار بالحكم، والمخبر بالحكم لا يكون مفرقا بينهما.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا "، وذلك إخبار منه بوقوع الفرقة، لأن النكاح لو كان باقيا إلى أن يفرق لكانا مجتمعين. قيل له: هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما روي عن عمر وعلي قال: " يفرق بينهما ولا يجتمعان " فإنما مراده أنهما إذا فرق بينهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن، فينبغي أن تثبت الفرقة حتى يحكم بأنهما لا يجتمعان، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه ما وصفنا. وأيضا يضم إليه ما قدمنا من الأخبار الدالة على بقاء النكاح بعد اللعان وأن الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم، فإذا جمعنا بينهما وبين الخبر تضمن أن يكون معناه: المتلاعنان لا يجتمعان بعد التفريق. ويدل على ما ذكرنا أن اللعان شهادة لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم، فأشبه الشهادة التي لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم، فواجب على هذا أن لا تقع موجبة للفرقة إلا بحكم الحاكم.
فإن قيل: الأيمان على الدعاوي لا يثبت بها حكم إلا عند الحاكم، ومتى استحلف الحاكم رجلا برىء من الخصومة ولا يحتاج إلى استيناف حكم آخر في براءته منها، وهذا يوجب انتقاض اعتلالك بما ذكرت. قيل له: هذا لا يلزم على ما ذكرنا، وذلك لأنا قلنا إن اللعان شهادة تتعلق صحتها بالحاكم كالشهادات على الحقوق، وليست الأيمان على الحقوق شهادات بذلك على هذا أن اللعان لا يصح إلا بلفظ الشهادة كالشهادات على الحقوق، وليس كذلك الاستحلاف على الدعاوى. وأيضا فإن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ببينته، فلما لم يجز أن يستحق المدعي ما ادعاه إلا بحكم الحاكم وجب حكمه في استحقاق المرأة نفسها باللعان، وأما الاستحلاف على الحقوق فإنه لا يستحق به شيء وإنما تقطع الخصومة في الحال ويبقى المدعى عليه على ما كان عليه من براءة الذمة، فكانت فرقة اللعان بالشهادات على الحقوق أشبه منها بالاستحلاف عليها. وأيضا لما كان اللعان سببا للفرقة متعلقا بحكم الحاكم أشبه تأجيل العنين في كونه سببا للفرقة في تعلقه بحكم الحاكم، فلما لم تقع الفرقة بعد التأجيل بمضي المدة دون تفريق الحاكم وجب مثله في فرقة اللعان لما وصفنا. وأيضا لما لم يكن اللعان كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها وجب أن لا تقع به الفرقة، كسائر الألفاظ التي ليست كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها.
فإن قيل: الإيلاء ليس بكناية عن الطلاق ولا صريح، وقد أوقعت به الفرقة عند مضي المدة. قيل له: إن الإيلاء يصلح أن يكون كناية عن الطلاق، إلا أنه أضعف من
(٣٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 384 385 386 387 388 389 390 391 392 393 394 ... » »»