أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٩٣
وجلد الحد أنه معلوم ان اللعان حد على ما بينا فيما سلف بمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات، وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد، فإيقاع الجلد لذلك القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له.
فإن قيل: فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع اجتماع الحدين عليه بقذف واحد، فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها. قيل له: إذا صار محدودا في قذف فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان، ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحد عندنا؟ فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان.
فإن احتجوا بما روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين، قال الزهري: " فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا "، وبما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال: " فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، قال سهل: " حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا "، وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبيل لك عليها "، فإنها لو كانت تحل له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج غيره. قيل له: أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري، وقوله: " مضت السنة " ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سنها ولا أنه حكم بها، وأما قول سهل بن سعد: " فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبدا " ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضت بذلك، والسنة قد تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكون من غيره، فلا حجة في هذا. وأيضا فإنه قال في المتلاعنين، وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان، فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم، كقوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) [التوبة: 91]، وقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) [البقرة: 124] ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات، ومتى زالت الصفة زال الحكم.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ". قيل له: ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ، وإنما روي ما ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل
(٣٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 398 ... » »»