أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣١٧
لأنه قال: (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) [البقرة: 196]، وكان المحل مجملا في هذه الآية، فلما قال: (ثم محلها إلى البيت العتيق) بين فيه ما أجمل ذكره في الآية الأولى، فوجب أن يكون محل هدي الإحصار الحرم. ولم يختلفوا في سائر الهدايا التي يتعلق وجوبها بالإحرام مثل جزاء الصيد وفدية الأذى ودم التمتع أن محلها الحرم، فكذلك هدي الإحصار لما تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون في الحرم.
قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير)، قيل: إن البدن الإبل المبدنة بالسمن، يقال بدنت الناقة إذا سمنتها، ويقال بدن الرجل إذا سمن. وإنما قيل لها بدنة من هذه الجهة، ثم سميت الإبل بدنا مهزولة كانت أو سمينة، فالبدنة اسم يختص بالبعير في اللغة، إلا أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن، ولذلك كان تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب وقوع الإحرام بها لسائقها ولا يقلد غيرهما، فهذان المعنيان اللذان يختص بهما البدن دون سائر الهدايا، وروي عن جابر بن عبد الله قال:
" البقرة من البدن ".
واختلف أصحابنا فيمن قال " لله علي بدنة " هل يجوز له نحرها بغير مكة؟ فقال أبو حنيفة ومحمد: " يجوز له ذلك "، وقال أبو يوسف: " لا يجوز له نحره إلا بمكة ". ولم يختلفوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال: " لله علي جزور " أنه يذبحه حيث شاء. وروي عن ابن عمر أنه قال: " من نذر جزورا نحرها حيث شاء وإذا نذر بدنة نحرها بمكة "، وكذا روي عن الحسن وعطاء، وكذا روي عن عبد الله بن محمد بن علي وسالم وسعيد بن المسيب. وروي عن الحسن أيضا و سعيد بن المسيب قالا: " إذا جعل على نفسه هديا فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى ". وقال مجاهد: ليست البدن إلا بمكة ".
وذهب أبو حنيفة إلى أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضي إهداءها إلى موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها، وأما الهدي فإنه يقتضي إهدائه إلى موضع، وقال الله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) [المائدة: 95] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. ويحتج لأبي يوسف بقوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير) فكان اسم البدنة مفيدا لكونها قربة كالهدي، إذ كان اسم الهدي يقتضي كونه قربة مجعولا لله، فلما لم يجز الهدي إلا بمكة كان كذلك حكم البدنة. قال أبو بكر: وهذا لا يلزم من قبل أنه ليس كل ما كان ذبحه قربة فهو مختص بالحرم، لأن الأصحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن، فوصفه للبدن بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم.
قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف)، روى يونس عن زياد قال: رأيت
(٣١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 312 313 314 315 316 317 318 319 320 321 322 ... » »»